لم يكن نجاح المؤتمر الاقتصادى بشرم الشيخ هو مجرد نجاح وليد الصدفة.. ولم تكن نتائجه الباهرة وحجم الاستثمارات الكبير الذى تم، كان مجرد أمنيات وتكهنات.. ولكن كان بالدرجة الأولى يعكس تخطيطاً على أعلى مستوى ويعكس أيضا رؤية ثاقبة من القيادة السياسية والتنفيذية بقدرة مصر على تخطى الأزمة الاقتصادية والمضى قدما فى طريق التنمية. لعل أهم ما جاء متزامنا مع هذا المؤتمر هو التعديل الوزارى الأخير الذى كان أهم إنجازاته التى لم ينتبه إليها أحد هو استحداث وزارة للتعليم الفنى التى تم فصلها عن وزارة التربية والتعليم، وهذه الوزارة الجديدة تأخر خروجها للنور 33 عاما تقريبا، وتزامن استحداث هذه الوزارة مع المؤتمر الاقتصادى يؤكد أنه ليس هناك شىء متروك للصدفة، وأن هذه الوزارة بالتحديد والمهام الموكلة إليها فى تخريج عمالة مهنية مدربة على أعلى مستوى ستكون العمود الفقرى لمشروعات التنمية الاقتصادية مستقبلا، خاصة أن هذه المشروعات ستحتاج إلى عمالة ذات مهارات مميزة خاصة أن قانون الاستثمار الجديد يعطى الحق لأصحاب المشروعات الاستثمارية والصناعية فى جلب عمالة مدربة ذات مهارات خاصة إذا لم تتواجد أو تتوافر هذه العمالة فى السوق المصرية. والسؤال الذى قد يدور فى الأذهان.. كيف ولماذا تأخر خروج هذه الوزارة 33 عاما بالتحديد.. والإجابة أنه بعد مجىء الرئيس الأسبق مبارك إلى الحكم عام 1981.. قام بعدها بعام واحد بتنظيم أضخم مؤتمر قومى لتطوير التعليم.. لأن التعليم هو أساس التنمية البشرية التى تقوم عليها التنمية الشاملة فى مصر.. وبالفعل ناقش المؤتمر أوضاع التعليم الذى بدأت حالته فى التردى تدريجيا ، وخرج المؤتمر بتوصيات مهمة واستراتيجية تحمل تصورا شاملا لمستقبل التعليم فى مصر طوال السنوات الأخيرة من القرن العشرين.. ولعل أهم ما خرجت به ورقة تطوير التعليم فى ذلك الوقت ضرورة اهتمام الدولة بالتعليم الفنى وفصله تماما عن التعليم العام وإنشاء وزارة خاصة به مع التوسع فى إنشاء المدارس الفنية والصناعية وتزويدها بالمعامل والورش والآلات والمطلوبة لنجاحه.. وحذرت الورقة من التناقص المستمر للعمالة المصرية المدربة وهجرتها إلى الخليج وليبيا وغيرها.. وطالبت ورقة تطوير التعليم أيضا الدولة بعدم التوسع فى التعليم الجامعى خاصة الدراسات النظرية والإنسانية وعدم التوسع فى إنشاء الجامعات لأنها ستخرج أعداداً غفيرة لاتحتاج إليها سوق العمل داخل مصر وخارجها. وللأسف منذ عام 1982 وحتى الآن جاءت الحكومات تلو الحكومات لتضرب بعرض الحائط كل ما خرجت به توصيات ورقة تطوير التعليم بل على العكس، زاد الاهتمام بإنشاء الكليات والمعاهد الخاصة والجامعات الخاصة وكله بالفلوس.. وكانت مهمتها الأساسية إعطاء شهادات جامعية فقط دون تقييم يذكر.. وسادت نظرية «ليه تتعلم بره مصر بالفلوس طالما تقدر تتعلم هنا بفلوس أقل».. كل هذا فى الوقت الذى أهمل فيه تماما التعليم الفنى ولم تحدث زيادة فى مدارس التعليم الفنى على الإطلاق وغابت الإمكانات عن المدارس الموجودة وتقلصت أعدادها بصورة غريبة وتحول فى النهاية إلى تعليم نظرى. الحسنة الوحيدة التى حدثت طوال الـ 33 عاما كانت مشروع «مبارك كول» الذى بدأ مشروعا عملاقا وجيدا للتدريب المهنى والصناعى فى مصر.. والذىلانعرف إلى ماذا انتهى هذا المشروع العملاق، ونتيجة هذه السياسة العكسية وهذا الإهمال الجسيم أصبحنا الآن بعد 33 عاما نعانى بطالة فى أوساط خريجى الجامعات والمعاهد العليا الذين لايحتاجهم سوق العمل.. وندرة هائلة فى العمالة الفنية والحرفية المدربة التى تحتاج إلى مهارات خاصة تستطيع مواكبة مشروعات التنمية الاقتصادية، والدليل على ذلك أننى حضرت مؤتمرا مهما للشباب فى عام 2010 وبحضور سبعة وزراء ورئيس الوزراء وقتها د.أحمد نظيف.. وكان موضوع البطالة هو محور المؤتمر.. وطرحت فيه دراسات وأبحاث تؤكد أن السوق الأوروبية تحتاج إلى 19 مليون فرصة عمل بحلول عام 2020 نصيب العمالة المصرية منها صفر.. والسبب تدنى مهارات العمالة المصرية الفنية والحرفية - والأخيرة تحتاجها السوق الأوروبية - إلى أسوأ وضع. إذن من المؤكد أننا أصبحنا نفكر فى الاتجاه الصحيح وخروج هذه الوزارة إلى النور التى تولاها د.محمد يوسف هى أول خطوة إيجابية للأمام على طريق التنمية ويبقى أن توفر لها الإمكانيات والميزانيات المطلوبة للتوسع فى هذا النوع من التعليم والتنوع فيه خاصة الجانب الحرفى.. وأيضا سرعة عمل بروتوكولات للتعاون الدولى مع الدول الصناعية الكبرى مثل ألمانيا وإيطاليا لتمويل بناء مدارس ومعاهد جديدة وإمدادها بالورش والمعامل المطلوبة وسرعة تطوير المدارس الموجودة أصلاً، وأيضا تحويل المدارس التجارية إلى مدارس فنية وصناعية، والاهتمام بتأهيل القائمين والمعلمين على هذا النوع من التعليم تأهيلاً جيداً وهو من أولويات وزير التعليم الفنى فهذا النوع من التعليم هو ما نحتاجه فعلا حتى نستطيع أن نواجه احتياجات سوق العمل.. وأن نلحق بقطار التنمية السريع الذى لاينتظر أحدا على الإطلاق.. لأن الزمن ليس فى صالحنا على الإطلاق.. إذا كنا نريد فعلا تحقيق التنمية الاقتصادية والتنمية الشاملة.•
تطّورت المجتمعات الغربية وتشابكت. تعقّدت العلاقات وتعدّدت فى المجتمع الواحد. وأصبحت الحكومات تبحث عن بدائل لتطبيق أسلوبها السي..